بقلم: عبدالمجيد مصلح
ساهمت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة والإلكترونية، في الكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان وفي ترسيخ السلم الأهلي أو إشاعة النعرات القومية وهذا ما تلمسناه في الخطاب الإعلامي الغربي بكل تلاوينه، وتأثيره في التأجيج من وطأة الصراع بين المغرب والجزائر وصنيعتها البوليساريو.
يشير مفهوم حقوق الإنسان، إلى حقلٍ من النشاط أو التحقيق يركز على المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان، الإبادة الجماعية، أو أشكال أخرى من الانتهاكات تشمل الجرائم ضد الإنسانية، أو الحرب الأهلية، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية لمستقبل آمن، يمكن إدراك المفهوم من خلال عدد من المصطلحات التي تدخل ضمنه مثل إعادة البناء الاجتماعي، فمع حدوث التحول السياسي بعد فترة من العنف أو القمع بالمجتمع المغربي، يجد هذا الأخير نفسه في كثيرٍ من الأحيان أمام تركة صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، ولذلك سعت الدولة إلى التعامل مع جرائم الماضي رغبةً منها في تعزيز دولة الحق والقانون، ولذلك يفكر المسؤولون الحكوميون ونشطاء المنظمات غير الحكومية في انتهاج مختلف السبل القضائية وغير القضائية للتصدي لجرائم حقوق الإنسان، وتستخدم في ذلك عدة مناهج من أجل تحقيق إحساس بالعدالة أكثر شمولاً وأبعد أثراً، مثل إقامة الدعاوى القضائية على مرتكبي الانتهاكات من الأفراد، أو إرساء مبادرات لتقصي الحقائق لمعالجة انتهاكات الماضي، أو تقديم التعويضات لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، أو التمهيد لعمليات المصالحة في المجتمعات المنقسمة على نفسها، كما حدث سنة 2004.
تسعى دولة الحق والقانون، إلى إيجاد حلول للانتهاكات المنهجية أو الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، وإلى تحقيق الاعتراف الواجب بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات تحقيق السلام والمصالحة والديمقراطية، وليست دولة الحق والقانون، شكلاً خاصاً من أشكال العدالة، بل هي تكييف للعدالة على النحو الذي يلائم مجتمعات تخوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات حقوق الإنسان، وفي بعض الأحيان، تحدث هذه التحولات على حين غرة، وفي أحيان أخرى قد تجري على مدى عقود طويلة.
وقد برز هذا النهج في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الثانية، وجاء في الأغلب والأعم استجابة للتغيرات السياسية في بلدان أخرى، ولارتفاع الأصوات المطالبة بالعدالة في المغرب، فقد سعى دعاة حقوق الإنسان وغيرهم آنذاك للتصدي للانتهاكات المنهجية التي اقترفتها الأنظمة السابقة، ولكن دون أن يعصف ذلك بالتحولات السياسية التي تشهدها البلاد، ولما شاع وصف هذه التحولات بـ”الانتقال إلى الديمقراطية”، فقد بدأ الناس يطلقون على هذا المجال الجديد المتعدد التخصصات مصطلح “دولة الحق والقانون”.
وقد اعتمدت حكومتنا الكثير من المبادرات مما أصبح فيما بعد بمثابة المناهج الأساسية لدولة الحق والقانون، تشمل إجراء تحقيقات قضائية مع المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات
حقوق الإنسان، وكثيراً ما يركز المحققون بالنيابة العامة تحقيقاتهم على “الرؤوس الكبيرة”، أي المشتبه فيهم الذين يعتقد أنهم يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية.
الغرض الرئيسي من لجان التحري هذه هو إجراء تحقيقات بشأن الفترات الرئيسية للانتهاكات التي وقعت في الماضي القريب، وإصدار تقارير عنها، وكثيراً ما تكون هذه اللجان هيئات رسمية تتقدم بتوصيات لمعالجة تلك الانتهاكات، ومنع تكرارها في المستقبل.
وهي مبادرات تدعمها الدولة، وتسهم في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي، وتقوم عادة بتوزيع خليط من التعويضات المادية والرمزية على الضحايا، وقد تشمل هذه التعويضات المالية والاعتذارات الرسمية.
ومن بين ما استهدفته هذه الجهود تحويل مؤسسات الدولة المتعلقة بها، من أدوات للقمع والفساد إلى أدوات نزيهة لخدمة البلاد والعباد.والرفع من مستوى الوعي الأخلاقي بشأن جرائم الماضي، بهدف إرساء حائط فولادي منيع يحول دون تكرارها في المستقبل.
هذه المبادرات تعد عموماً بمثابة الأساس الذي ترتكز عليه جهود دولة الحق والقانون، وهي ليست قائمة شاملة تستقصي كافة المبادرات الممكنة، فقد وضعت مجتمعات كثيرة مناهج أخرى مبتكرة لمعالجة انتهاكات الماضي وذلك سبب من الأسباب التي أضفت على هذا المجال قوة وتنوعاً في آن معاً على مر السنين.
بعض المناهج الحديثة لدولة الحق والقانون، سلطت الضوء على مظاهر القمع التي تستهدف الجنس الاجتماعي، وعلى سبيل المثال، فإن بعض الاستراتيجيات التي تم استعمالها من طرف لجان الحقيقة والمحاكم وبرامج التعويض وجهود الإصلاح المؤسسي لمعالجة هذه القضايا تشمل ما يلي: جلسات استماع ترتكز على نماذج النوع الاجتماعي لانتهاكات حقوق الإنسان والجهود النشيطة التي يبذلها وكلاء الملك والمحققون في متابعة الانتهاكات المبنية على الجنس، وتنمية مناهج مرنة فيما يخص قضايا معنية مثل الأدلة والعناية اللازمة في التعامل مع الشهادات حول جرائم مثل الاغتصاب، وتعريف فئات مثل “الجرائم ضد الإنسانية” أو انتهاكات حقوق الإنسان “ذات الدوافع السياسية” لتشمل جرائم مثل الاغتصاب، والعمل من أجل استخدام عدد مهم من الموظفين لفائدة لجان الحقيقة أو مكاتب النيابة العامة، ووضع بروتوكولات من أجل الضحايا أثناء المتابعات أو جلسات الاستماع العلنية لضمان سرية المعلومات الحساسة، ومبادرات للتعويض تقوم على معالجة الانتهاكات الخاصة بالجنس، أو محاولة اتخاذ خطوات خلاقة لتفادي إعادة إشكاليات نماذج الجنس الاجتماعي عند منح تعويض عن الخسائر.
وكثيرا ما تتم الإشارة إلى مفهوم “الإنصاف والمصالحة” في المناقشات المتعلقة بدولة الحق والقانون، غير أن لهذا المفهوم عدة معانٍ مختلفة، فهو في نظر البعض، مرتبط بالجهود المبذولة من جانب الملك “لطي صفحة الماضي” أو “للعفو والنسيان” لكن المدافعين عن حقوق الإنسان نادرا ما يقبلون هذه الصيغة من المصالحة، محتجين بقوة بأن المصالحة الحقيقية يجب أن تكون مرتبطة بالمحاسبة والعدالة والاعتراف بالجرائم الماضية.
أما الانتقاد الثاني الموجه إلى “الإنصاف والمصالحة” فهو أنها تقدم غالبا كهدف نهائي وقابل للإنجاز دون إيلاء ما يكفي من الاهتمام للعملية التي يمكن أن تنجز من خلالها. وعليه، فإن الإفراط في التركيز على “الإنصاف والمصالحة” قد يؤدي إلى الفشل وخيبة الأمل.
ويمكن استخدام مصطلح “الإنصاف والمصالحة” بمعنى الجهود الرامية إلى إرساء السلام والثقة الوطنية بين الخصوم القدامى – في سياق من العدالة والمحاسبة – وخلال التاريخ الحديث لهذا المجال إبان العقود الأخيرة، تم تطوير مجموعة متميزة من آليات العدالة والاعتماد عليها من جانب الحكومات الديمقراطية الخارجة لتوها من فترات حرب أو حكم استبدادي والتي لا تقتصر فقط على محاكمات الجرائم المحلية، وهناك مجموعة من العوامل تساعد في شرح هذا النمو المثير في الآليات ويتضمن ذلك تطوير أنظمة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة والمناطق الإقليمية ودفاع المنظمات غير الحكومية الدولية وطاقتها الإبداعية، والموجات المتوالية للانتقالات الديمقراطية في أعقاب النزاعات التي عرفتها جميع أنحاء العالم في العقود الأخيرة، وانتهاء الحرب الباردة التي فتحت الباب أمام إمكانيات العمل والتعاون الدولي، وهو ما لم يخطر على بال، ونتيجة لذلك، لا تحتاج المجتمعات الخارجة اليوم من فترات القمع الجماعي إلى صياغة استراتيجيات عدالتها من فراغ، ولكن بدلا من ذلك – وبفضل ثورة الاتصالات العالمية – يمكنها أن تركز انتباهها على الوسائل المستحدثة والدروس المستخلصة في أماكن أخرى، ويمكنها كذلك أن تستفيد من مجموعة كبيرة من الأعمال الأكاديمية والصحفية والفنية المتوفرة الآن حول الموضوع ذاته وكذا من الخبرة والمساعدة التقنية من جانب المفكرين المختصين والتي تشكلها المنظمات الدولية، والهيئات الأجنبية المتبرعة التي ازداد نشاطها في هذا المجال.
ورغم أن هذه كلها تطورات مشجعة، فالحقيقة أن الدول التي تضمد جراحها من فترات القمع الجماعي ستستمر في مواجهة الجانب الذي لاشك فيه تقريبا وهو أنه “لا تخلو دولة من العيوب”.
فمن المعلوم أن عمليات الخروج من فترة الإرهاب تتميز بتحديات يكاد يصعب تجاوزها على الصعيد المعنوي والقانوني والسياسي. وفي العديد من الحالات، تضطر فعلاً الحكومات الانتقالية إلى الاختيار بين العدالة واستمرار السلم، أو العدالة واستمرار الديمقراطية، وعلاوة على ذلك، حتى لو كانت مثل تلك التهديدات أقل أهمية، فإن نطاق انتهاكات الماضي والقيود التي لا مفر منها فيما يخص الموارد البشرية والمالية تجعل العدالة العادية أمراً مستحيلاً، ويصبح التجديد والتوافق ضرورة مزدوجة، لأن أنظمة العدالة تم وضعها على أساس أن الجريمة تشكل استثناء وليس قاعدة – أما إذا صارت الجريمة قاعدة، فلا يوجد أي نظام قوي بما فيه الكفاية لفرض النظام……وبالتالي، ففي معظم سياقات دولة الحق والقانون، إن لم نقل كلها، سوف تدعو الحاجة إلى أدوات أخرى للمحاسبة.