بقلم: عبدالله البقالي
لا يحتاج الحديث عن توزيع عائدات الثروة في بقاع المعمور إلى براهين، للتأكيد على التفاوتات الكبيرة في الاستفادة منها على قدم المساواة بين جميع شعوب العالم، لأن المعطيات السائدة في هذا الصدد واضحة ومتجلية أمام الجميع. و بدون أدنى مجازفة يمكن القول إن توزيع عائدات الثراء في العالم يعرف اختلالات عميقة ومتجذرة،وتبين أن قلة قليلة من البشر فوق الكرة الأرضية تستحوذ على الحصة الكبيرة مما تتيحه الحياة البشرية من ثروة و غنى، في إطار نظام اقتصادي عالمي أفرزته موازين القوى السائدة بين دول العالم.
ولقد أعاد (مختبر اللامساواة العالمية) هذه القضية إلى واجهة الاهتمام من خلال نشر دراسة هامة خرجت إلى العموم في نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري، وأعده مجموعة كبيرة من الخبراء الاقتصاديين الذين تجاوز عددهم المائة خبير، ينتمون إلى العديد من دول العالم، و شملت الدراسة عينة من 100 دولة من المعمور، والتي كشفت عن حقائق، أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها صادمة جدا، تكشف عن اختلالات فظيعة فيما يتعلق باستفادة البشر الذين يعيشون فوق نفس الكوكب من عائدات الثروة العالمية.
وهكذا أقر معدو الدراسة في مستهلها أن انعدام المساواة في هذا الشأن ناتج بصفة رئيسية عن الاختيارات السياسية السائدة في العالم. بمعنى أن العامل السياسي هو المتحكم الرئيسي في القرارات الاقتصادية والتجارية المتخذة، سواء على المستوى القطري أو على المستوى العالمي، والذي يمثل تجليا واضحا لتحكم القوى الاقتصادية العالمية الكبرى في مسارات توزيع الثراء العالمي.
ويكشف التقرير في هذا الصدد أن 10 بالمائة من الأشخاص البالغين في العالم، و هم الأكثر ثراء، يستحوذون على 52 بالمائة من العائدات المالية، بيد أن 50 بالمائة من الأشخاص البالغين الأكثر فقرا لا تصلهم إلا نسبة 8،5 بالمائة من هذه العائدات، وهذا يعني بلغة الإحصائيات الدقيقة أن أقل من 700 مليون شخص، من الذين أتاحت لهم الظروف السائدة حظوة متميزة، يهيمنون على نصف كمية الثروة المالية العالمية، بيد أن أكثر من 3,5 مليار شخص في العالم يستفيدون من أقل من عشر هذه الثروة. ويكشف التقرير أن التفاوت لا يقتصر على المداخيل المالية المحصل عليها من طرف الأفراد، بل إن هذا التفاوت يطال أيضا الممتلكات (عقارات، الادخار، أنشطة مالية أخرى) بالنسبة للأسر والتي تزداد تعمقا و تفاوتا منذ مطلع سنة 1990 من القرن الماضي، أي خلال الفترة التي أعقبت الأزمة المالية التي هزت العالم سنة 2008. وهكذا تكشف الوثيقة أن نصف سكان العالم من الفقراء يملكون 2بالمائة فقط من ممتلكات الأسر، في حين أن 20 بالمائة من أفراد الأسر يستحوذون على 76 بالمائة من الممتلكات المتوفرة في العالم، و يوجد الأشخاص المنتمون إلى الطبقة الوسطى بين الفئتين بامتلاكهم 22 من هذه الممتلكات. وتشير الدراسة إلى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي اكتسحت العالم نتيجة تغول السياسات الامبريالية، التي عرفت أوجها منذ بداية القرن الماضي، ساهمت إلى حد بعيد في فرض هذا الواقع المريب، حيث سعت الأوساط الاقتصادية، من شركات كبرى وأبناك عملاقة إلى تعويض ما ضاع منها، وبالتالي إلى اعتماد سياسات اقتصادية بديلة تجنبها شرور ما تعرضت له أثناء الأزمة.
ومن جهة أخرى تؤكد الدراسة أن جائحة كورونا لم تكن وباء على جميع الدول، وعلى جميع الشركات، و لا الأوساط الاقتصادية و التجارية في العالم، بمعنى أن تسديد الفاتورة المترتبة عن تداعيات انتشار هذا الفيروس الخطير لم تتم بصفة عادلة و متساوية بين الجميع، بل هي لحظة كشفت عن معطيات جديدة تهم القدرة على المواجهة، وامتلاك ملكة انتهاز فرصة الأزمة الطارئة لزيادة مراكمة الأرباح المالية. و في هذا السياق يكشف معدو التقرير أن أثرياء العالم من أصحاب الملايير حققوا أرباحا مالية خيالية بلغت قيمتها 3600 مليار دولار، أي ما يعادل ما يحتاجه تمويل قطاع الصحة في العالم بأسره لمدة سنة كاملة.
تفاصيل كثيرة لا تقل أهمية و لا خطورة عما سردناه فيما سبق، حفلت بها الدراسة التي نشرتها وسائل إعلام غربية ، مما لا تتسع له هذه المساحة، و يبقى الأهم أن الخبراء الاقتصاديين الذين أعدوا هذه الدراسة ينبهون إلى خطورة التهديدات المحدقة بهذه القضية، من قبيل أن انعدام المساواة في الدخل وفي الممتلكات سيزداد تعمقا و تفاوتا في غياب معالجة حقيقية لهذه الإشكالية المستعصية، و أن 1 بالمائة من أثرياء العالم (أقل من 5,2 مليون شخص) سيواصلون الزحف نحو الهيمنة على الثروة العالمية.
وفيما يتعلق بالحلول التي تقترحها الدراسة، فإن الخبراء الاقتصاديين يلحون على ضرورة الرفع من معدلات الاستثمار في قطاع التعليم، والأكيد أن التعليم الفعال والمنتج يتيح إمكانيات كبيرة و هائلة للرفع من معدلات الدخل المالي ، لأن التعليم وحده يمثل المصعد الاجتماعي داخل كل دولة، إذ لا سبيل أمام أبناء الفقراء والبسطاء من أن يصبحوا في المستقبل أطباء و مهندسين و أساتذة و محامين، و رجال ونساء أعمال إلا عبر تفوقهم في أسلاك التعليم وامتلاكهم لمعارف تؤهلهم الى الانتقال من طبقة المحرومين التي ولدوا فيها، إلى الطبقة المتوسطة التي يمكنهم عبرها الانتقال إلى الأعلى .كما توصي الدراسة بحتمية الاستثمار في قطاع الصحة باعتباره خدمة اجتماعية يجب أن تكون متاحة أمام جميع أبناء الوطن الواحد، ولأنه لا مجال للحديث عن تنمية المداخيل المالية بمواطن تحرمه المسالك المعقدة والبنية الصحية المهترئة من الاستفادة من الخدمات الاجتماعية بصفة عامة، و في مقدمتها الصحة العمومية. كما توصي من جهة أخرى بالإسراع باتخاذ جميع التدابير الفعالة للقضاء على الفوارق المجالية والترابية، بحيث تكون جميع أرجاء البلد الواحد مشمولة بإرادة تنمية حقيقية و عادلة، وبالتالياعتماد إصلاحات شجاعة فيما يتعلق بالسياسات الجبائية بحيث يدفع أكثر من يكسب أكثر، على أن تكون العائدات المحصلة من هذه الجبايات في خدمة الفئات المحرومة من أبناء الشعب .
المفارقة المثيرة هي أن الكثير من الحكومات المعنية بلدانها بانعدام المساواة في الدخل وفي الممتلكات، والغالبية الساحقة من القوى الاقتصادية العظمى التي تقبض بأنفاس النظام الاقتصادي الظالم في العالم، لا تبدي أية إرادة لفتح ملف هذه القضية الإنسانية، وهذا ما يؤشر على أن المعطيات السائدة تجد في الأوضاع المفروضة تربتها الفاسدة، بما يؤشر على أن الإشكالية ستزداد استفحالا على المدى المنظور و البعيد.
عن العلم