إكراهات الواقع وإصلاح منظومة التعليم الجزء الأول

lenquete

قد تبدو العملية التعليمية معقدة بلا شك، إذ إنها الشكل الوحيد المنظم الذي يمكن من خلاله صناعة المستقبل، و بذلك فإن قضاياها و إشكالات طرحها متجددة دوما بدون توقف، و كغيرها من مجالات العلوم الإنسانية لا يدوم بها الحال على صورة محددة، ولا تستقر تطلعاتها عند إنجاز معين أو نتيجة واحدة، و بخاصة في ظل إكراهات الواقع، و ما يكتنف العالم الآن من تحولات أبرزها التحول في  مفاهيم التنمية البشرية، والمعلوماتية، و الهندسة الوراثية وعلاقتها بالعقل البشري والتوصل لأسرارها ووظائفها و إمكانية تطويع ذلك لصالح عمليات التعليم والتعلم، و ما يرتبط بها جميعا من الذكاء الاصطناعي وغيره من التحولات والتحديات العالمية التي تجعل من شعوب العالم على طرفي نقيض: قسم على طرف المشاركة الإنتاجية و الوعي بما يجري، وبالتالي الاستفادة من المنجز الحضاري، وقسم على طرف التغييب التام، أقصى ما يمكن أن يصل إليه أن يكون حقل تجارب و ميدانا نفسيا لترويج البضاعة الراكدة …

و انطلاقا من هذه القناعة الراسخة، يبقى التعليم في مشروعنا الوطني هو الواجهة الأساسية لتحقيق أي تنمية قائمة على البحث العلمي، وهو المفصل الطبيعي لتحقيق التحول المرتقب لأي مجتمع، و دونه لا يمكن أن نخطو أي خطوة في مضمار المعرفة المرتبطة بمجالات الابتكار والإنتاج ونشاط الأفراد، وما يرتبط بذلك من تطوير للعقليات والسلوك مع ما يفرضه هذا التصور من إحاطتنا بأهم السياقات المحيطة بواقعنا كمدخل لإصلاح تعليمنا، والوعي بخصوصياتها وباستيعاب محاسنها و مساوئها، وتقاطعاتها المعقدة….

وباعتقادنا، فإن هذا المعطى قد لا يتأتى دون توفر رؤية مستقبلية بعيدة عن مجرد الطموح، ومرتبطة بخطط علمية وحسب معايير منهجية تتسم بالجرأة، وتمكن من الرؤية الصائبة لما نريد أن يكون عليه حاضرنا ومستقبلنا في ضوء الإنجازات الإنسانية الكبرى ….

وتبعا لذلك، فلا مناص من اعتماد منهجية علمية للتفكير تطرح أسئلة جوهرية دون مداراة أو التباس بدءا من تحديد هدف جوهري وأساسي يتلخص في التساؤل التالي: ما هي أغراض التعليم؟ كسب الرزق (الوظيفة ) أم تحصيل العلم و تهذيب السلوك ؟….

لو جعلنا للكسب أو الوظيفة غاية للتعليم لانتهينا إلى تكوين أجيال قادرة على الكسب المادي لضمان قوتها اليومي وحاجياتها الاستهلاكية، ولكنها في نفس الوقت عاجزة عن تشكيل نسيج اجتماعي قادر على الخلق والابتكار والإبداع، وفي غالب الأحيان سيتوجه العديد من هؤلاء إلى البحث عن تحقيق الربح المادي السريع المتحصل من مهن بسيطة لا تفي بالحاجة إلى تطوير قدراتهم الفكرية و المادية….

وإذا انطلقنا من اعتبار الغرض الأساسي من التعليم هو تحصيل العلم كمقصد شريف، فالأكيد أن هذا الغرض رغم أهميته فإنه يبقى عاجزا عن تحقيق التربية، و من هنا كان لا بد من الجمع بين المنفعة العلمية (التكوين) و المعرفة النظرية (المعرفة) في كل غاية تربوية تعليمية، كما أنه لا بد للتربية أن تتعدد أبعادها و مكوناتها فتشمل مختلف مواد التعليم من قراءة وحساب  وتعليم للمهن الصناعية والزراعية وتهذيب الأخلاق، فباستطاعة التربية عموما أن تصنع الأعاجيب لأن غايتها : “تحقيق القدرة على التحرر و الإبداع”!!!!.

لقد تنوعت – ومنذ عقود – مستويات تفكيرنا في إصلاح التعليم ببلادنا كما تنوعت تلك المقترحات التي استفاضت في عرض ما يمكن تحقيقه بالنسبة لتكوين الفرد المغربي، و هي مستويات ومقترحات تتلخص في: لغة التعليم، دينية التعليم، إجبارية التعليم، مواده، مناهجه، مهنته، التعليم المهني، محاربة الأمية….

فيما يتعلق بلغة التعليم: لم تكن لغة موحدة في الحقبة الاستعمارية، بل عرفت تعددا بتعدد المدارس الموجودة بالبلاد: مدارس فرنسية عربية، مدارس إسرائيلية خاصة بأبناء اليهود، والمدارس القروية التي كانت توجه التلاميذ نحو حرف زراعية بسيطة، ومدارس حضرية تؤهل أبناء النخبة والأعيان لتكوين علمي وتقني أرقى، ولازالت إلى الآن تشكل امتدادا في تعليمنا، بينما يتعلم أبناء الشعب من الطبقات الفقيرة مهنا يدوية بسيطة تكفل لهم بالكاد ضمان عيشهم اليومي ….

و داخل هذا التعدد كانت السيادة للغة الفرنسة، ومن هنا نفهم حاجة الحركة الوطنية منذ الثلاثينات إلى تأسيس مجموعة من المدارس الوطنية عبر ربوع المغرب بهدف التصدي ومقاومة الغزو الثقافي الاستعماري، وكان مطلب التعريب ملحا ولا زال إلى الآن، إلا أن هذا المطلب استمر تحت تأثير المواقف الإيديولوجية والسياسية بدلا من اتخاذ بعد علمي موضوعي محايد، حيث تحول في ظل ما نعيشه اليوم من مخاض إلى مواقف سياسوية تحت شعار «العربية اللغة الأم، لغة الهوية و الانتماء»….

لا أحد ينكر ذلك! وقضية الاستلاب الثقافي عبر اللغة انتهت، ولا مبرر علميا للتمادي في هذا التصور المشبوه! فالعربية تفرض نفسها بحكم الانتماء، وبحكم التدين،  وبحكم ما نقلته إلى الإنسانية من علوم الأمم المتحضرة وفلسفاتها وآدابها في زمن كان العالم يعيش على هامش الحضارة خاصة – الغرب – وعبر العربية انتقلت تلك المعارف إلى بقية أصقاع العالم!.

ولنا في تجارب بعض رجال الفكر المغاربة من المعاصرين ما يؤكد صحة ما نذهب إليه من أمثال المرحوم المهدي المنجرة، المرحوم عابد الجابري، و د.عبد الله العروي…. لقد خبروا ثقافة الغرب وتمكنوا من لغته، وتفاعلوا إلى حد كبير مع نماذج من آسيا خاصة النموذج ( الياباني)، ولم يكن ذلك عاملا من عوامل الاستلاب، بل عبروا عن مواقفهم الفكرية تجاه تلك النماذج بالعربية الأم، ولم يكن ذلك عاملا من عوامل التواطؤ والانبطاح. فقد ترجمت أعمالهم للغات أجنبية لجودتها وعمقها، ولقدرتها على سبر الأغوار تعبيرا عن النضج الثقافي والحضاري، فالاستلاب الثقافي كما يريد البعض أن يستبلدنا مرتبط بدرجة وعينا ومستوى نضج فكرنا الذي يتملكنا تجاه أنفسنا و تجاه الآخر….

وهل هناك من إهانة أكبر في حق العربية من تبني أدعياء العربية الدعوة ودون خجل إلى لغة (المسمنة و البغريرة)؟ هذه هي اللغة هي التي تمكن منا الآخر، وتحيلنا إلى مهاوي الاستلاب نتيجة تلك المواقف المشبوهة!.

   العالم اليوم أضحى قرية صغيرة، والحدود بمفهومها التقليدي انتهت والحاجة إلى المعرفة والتكنولوجيا هي الفيصل!.

إن الأهم أن نأخذ بأي لغة كفيلة بنقل المعرفة وتوطينها وهذا باعتقادي هو التصور الموضوعي لإشكالية لغة التدريس، وأن تكون حظوظ أبنائنا متكافئة في الأخذ بنصيبهم من اللغات الحية و علومها….

وقد نتساءل: هل يكفي لنقل فكرنا و ثقافتنا إلى الآخر الاعتماد على لغتنا، أم علينا استيعاب لغته والتمكن من أدواتها المعرفية حتى نستطيع تصدير ثقافتنا إليه؟.

وحين نستطيع امتلاك المعرفة والتكنولوجيا وأدواتها آنذاك يمكننا فرض لغتنا، واختزال إشكالية اللغة في بعدها السياسوي قد ينزاح بها عن بعدها الحضاري التداولي كناقل للمعرفة….

   فإشكالية اللغة جزء من إشكال حضاري بنيوي، ومع الأسف فلا نحن أخذنا بأسباب القوة والفعل الإيجابي في موروثنا الحضاري لنجعل منه عبر لغتنا حافزا على البناء، و إثبات الذات في خضم هذا الصراع الشرس …. ولا نحن استطعنا أن نمتح من حضارة العصر الوافدة إلينا من الغرب عناصرها الإيجابية، والعمل على تكييفها وفق حاجاتنا الملحة إلى التطور واكتساب أدواته العلمية والتكنولوجية! لقد اختلط الحابل بالنابل!!!! وللكلام بقية….

lenquete 18:14 | الاثنين 18 مارس 2019.
قد يعجبك ايضا
Loading...