إلى صديقي في السجن..هل آمنُ عليك من غدر السجان إلا بقدر ما آمن على نفسي من غدر التهم الجاهزة
قال: «وأعوذ بك من قهر الرجال»
الموقع الالكتروني/ الأخبار المغربية
إليك يا زميلي وصديقي وأخي حاتم حجي، أكتب هذه الكلمات والحروف، أكتبها بمداد الروح قبل القلم فلا تستهن بها، فالله وحده يعلم ما وراءها من لحظاتٍ قاسيةٍ، ومن محنٍ حاميةٍ، تُشبه محنك ومعاناتك، فرج الله عنك وعنا، الحمد لله الذي قضى بأن مع العسر يسرًا، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمةً وبشرى، وعلى آله وأزواجه، ورضي الله عن صحابته أما بعد،
لقد قرأت خبر تورطك في أشياء لا أكاد أصدقها، وكان فيما أتت به الأخبار الملغومة الحاقدة على الشباب المغربي الناجح، ولو وجدت وصفًا لأصف ما بيني وبينك أبلغ من الصديق والأخ لقلت ولكني لا أجد، نعم؛ قُبض عليك لا لسبب يذكر وبغير إنذار مسبق، قراءة الخبر وحدها كانت كفيلة لأن تجعلني لا أقدر حتى على البكاء أو البوح لأحدهم، كان ضربًا أشبه بالحلم فور وقوع الخبر أمام عيناي.
حالة من الذهول والتيه تنتابني، صمت رهيب يخيّم على أرجاء قلبي، العبرات تملأ عيناي آبية أن تسقط، الكلمات تتلعثم في فمي كما طفلٍ صغيرٍ يتعلم الكلام، ولا أجد ما أُربت به على قلبي سوى “إنا للّه وإنا إليه راجعون” علها تهوّن عليّ، وما كان لي وقتذاك إلّا أن أتبين مدى صحة الخبر، فهاتفت أحدهم سائلًا إياه ما حدث فأبى أن يخبرني، ثم هاتفت آخر فأبى أيضًا إلا أنّي ألححتُ عليه ليطمئن قلبي ويسكن فؤادي ولأهدّأ من روعي، فأخبرني بنبرة حزن لم أعهدها عليه من قبل “نعم يا عبدالمجيد؛ حاتم قد قُبض عليه” وَددتُ في هذه اللحظة لو أنه لم يخبرني، وددت لو أنني لا أسمع حتى لا أتألم، ولعنت فضولي لأول مرة، وتمنيت لو أنني كنت آخر من يعلم.
ولا أعلم السبب وراء أنني لا أصدق الخبر هذا إلى الآن، ألأن حاتم حجي ذاته الذي قبض عليه أم أنني لست متقبلًا الفكرة من بادئ الأمر؟! الفكرة يا هذا أن يكون ليس لك من الأمر شيء ثم يُلقى بكَ في السجن، أن يكون السجن عقابًا لك على عدم ارتكابك للذنب، ولكن لا عجب في ذلك يا صديقي، فالنبلاء عادة ما يضطهدون في كل زمان ومكان، ولقد كان يوسف عليه السلام نبيًا وسُجن..ولا عجب.
حين ذهبت إلى مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، لأسأل عنك وكان بصحبتي بعض الأصدقاء، علمت أن الخبر صحيح، حاتم حجي، الرجل الشهم التلقائي حد الذهول، المتواضع حد البهاء، البسيط حد الجمال، الفواح أخلاقا وحبا أينما حل وارتحل، يسكن القلب على حين غفلة منك، وما رأيت شخصا على الفطرة مثله، على قدر الأخلاق والعلم حد العجب، وما اختلف عليه اثنان منا يومًا، وإني لأرجو لو أن أبنائي بإذن الله يكونون على هذا القدر من الأخلاق والعلم والتواضع والبساطة والسماحة وَسَيُلْبِسونني لباس الفخر دونما إنجاز.
يا أخي حاتم حجي، لا أجد فيك عيوبًا يا صديقي، يعلم اللّه أنني أتألم لغيابك ضعف ما تتألم أنت في زنزانتك، اليوم في غيابك يكاد لا ينقضي، عقارب الساعة متمردة معلنة أن لا حراك، يا صديقي أُوصيك ألا تحزن ولا تجزع ولا تيأس ولا تقنط “إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” كنت دومًا ما أخبرك أنه ما جُعلَ شيءً ليكون سرمدًا، الليل دومًا يفلقه النهار، والعسرُ لا يتبعه يسرٌ وإنما معه، والشدة حتمًا ستزول، والاعتقال بإذن الله سيغدو فرجًا، ومن سنن هذه الأرض أن لا شيء يدوم، ولا عجب يا صديقي لما فُعل بك، وسبق لي أن أخبرتك بأن النبلاء مضطهدون في كل زمان ومكان، وأن في السجن مظاليم كُثر، فصبرٌ جميلٌ إذًا يا صديقي، فصبرٌ جميلٌ عسى اللّه أن يأتينا بك، فصبرٌ جميلُ يا صديقي.. والعاقبة للتقوى.
قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة:24]. 4- لا تترك فرصة للاستفادة: لم ينته المطاف! مازال هناك الكثير والكثير، وأنت لا تعلم على أي شيء ستُقبل، لا تجلس حبيس مكانك تنتظر فرجاً أو موتاً، بل أعد ترتيب نفسك، ونسق حساباتك، تحرك بحسب ما تستطيع، من لا يعرف فكرتك وقضيتك فعرفها له، لو وجدت فرصة للكتابة فاكتب، ولو عندك سبيل للنشر فانشر، ومتى وجدت من يعلمك شيئًا فاستفد منه، ولو لم يتيسر لك أي شيء من ذلك ولم تجد من تتبادل معه النفع مطلقا، فاعلم أنك في سجنك وفي أي محنة في حياتك لا يمكن أن تخطئ واحدة من هذه الثلاثة..
ـــ أن تتعلم شيئاً جديداً لم تكن تعلمه حتى بدون معلم، فالشدائد وحدها تُعلّم، والمحن تكشف، وكم من معان للحق لا تظهر إلا حين البلاء، وأوصيك بكثرة التأمل، ليتحقق لك ذلك.
ـــ أن تكتسب صفةً حسنةً وخلقٍ لم يكن عندك، ومثله أن تتخلص من صفةٍ سيئةٍ كانت فيك، فالسجن هو وضع إكراه قد يعينك على إجبار نفسك على أشياءٍ لم تكن تقدر عليها في العافية.
ـــ أن تكتسب حسنات تلقاها في آخرتك بالقرآن والذكر والصلاة والدعاء والاحتساب والصبر وخدمة إخوانك وسائر أنواع العبادات القلبية والبدنية، وللحسنات أثر يعين على البلاء، فهي تضيء القلب وتنير البصيرة وتجعل لك رصيداً عند ربك مما يسهل عليك الثبات ويقرب الفرج ويقلب محنتك منحة ومثل اكتساب الحسنات زوال السيئات، فالبلاء يغسل العبد من الذنوب، ولا تنس مع ذلك دوام الاستغفار، إن الأوقات تمر في السجن سريعًا -بعكس ما يظهر- فلا تخسر قدراً من عمرك بلا استفادة، حاول أن تستفيد من كل لحظة، فما يدريك لعل الله يعدّك لشيء عظيم وسجنك هو مقدمةٌ له، فكم ربت هذه الجدران رجالاً صنعوا التاريخ.
العقل قبل العاطفة..من أشهر ما يصيب السجناء هو ما أسميه “التضخم العاطفي” إن نفسية السجين لا تكون كنفسيته في حالته الطبيعية، احتجاب السجين عن الدنيا وقلة الشواغل المرئية داخل سجنه تجعل السجين لا يجد شيئا يروّح به عن نفسه غير التنقل داخل ذاته، إن السجين لا فسحة له تضاهي فسحة التفكير، ولكنه ليس كتفكير الإنسان الطليق الذي تحيطه الشواغل من كل جانب، تفكير السجين هو السباحة في بحار الذكريات، تلك البحار التي ما أن يسبح فكر السجين فيها حتى يجد نفسه بين أمواجٍ هائجةٍ متلاطمةٍ، إنها أمواج العاطفة، وما أدراك ما أمواج العاطفة؟ أمواج لا تستطيع أن تقاوم دفعاتها، تأخذك كيف شاءت يمنةً ويسرةً، وترفعك تارةً وتخفضك أخرى، لتجد نفسك قد دخلت في حالةٍ من غياب الوعي الكامل لا تستفيق منها إلا حين يستشعر لسانك مِلح دموعك التي تدفقت من عينيك وكأنها قطرات من البحار التي كنت تسبح فيها بفكرك، إنها لحظاتٌ تتكرر، وكلما تكررت تركت في القلب جرحاً غائراً، حتى يصير القلب متوهجاً من كثرة جروحه، وهذا هو محل الشاهد، إن للسجين قلباً متوهجاً بالجراح تجعل العاطفة هي الغالبة على حاله، وأعني بالعاطفة الشعور الوجداني من شوقٍ أو غضبٍ أو حبٍ أو كرهٍ أو غير ذلك، وإذا لم ينتبه السجين لذلك لربما حسب كثير من الأمور بعاطفته لا عقله، فيقع في أخطاء كبيرة، فكثير من الأفكار المنحرفة والضالة لم تخرج إلا من بطون السجون، فلا ينبغي أبدا أن يستسلم السجين لعاطفته، وليجعل عقله الحاكم دائماً، لا يفعل شيئاً ولا يعتقد اعتقاداً ولا يزن الأمور إلا بعقله، وليوجه عاطفته لله تعالى واللجوء إليه والاستعانة به والصلاة بين يديه فهذه العاطفة فرصةُ للتقرب من الله واللين بين يديه.
إن عاطفة السجين تصل إلى الحد الذي يجعله مشتاقاً للخارج بكل تفاصيله، يشتاق حتى لشدائده ومعاناته، إنه يتذكر كل شيء بالخارج فيشتاق إليه وإن كان مؤلماً، عاطفة السجين تفقده كثيراً من اتزانه، إنها نقطة الضعف الكبرى والمدخل الذي يدخل منه الطغاة إليه، فإذا لم تنضبط ربما لم يستطع الثبات ولا الاستفادة من سجنه كله، إنها قد تضيع قضيته كلها وتبطل أجره وتجعل ما مر من أوقاته هباء، فحاول أن تحكم عقلك ما استطعت وألا تترك للعواطف القيادة مطلقاً.
لست دليلا…لا شك أن هذا هو بلاء الحر الحقيقي، فحر النفس لا يبكي على لذائذ وشهوات، ولكنه يتقطع من داخله كلما شعر بالقهر أو باستبداد الحقراء عليه، لا شك أنه بلاءٌ وقد استعاذ منه سيد الورى حين قال: “وأعوذ بك من قهر الرجال” وهذا الشعور المؤلم هو جزءٌ من البلاء الذي يختبرك الله به ليعلم هل نفسك عندك أعز عليك من الله؟ هل تعزها على رسالتك وقضيتك، هل هي أكرم عندك من الحق والدين، إعلم أن الله قد اشترى منا أنفسنا، وشراؤها لا يعني فقط الموت في سبيله، ولكن بيع نفسك لله يكون باستعدادك لقبول كل شيء يحدث لك في سبيله، فلا تبخل على الله بشيءٍ من نفسك، ووالله كما أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من المسك حتى ولو رآه الناس كريهاً، فكذلك أنت بقهرك هذا واعتقالك أعز عند الله من الذين انتفخوا بالدنيا وانتفشوا بالمناصب وإن رأيت نفسك معتقلا دليلا، أنت أعز من كل أولئك العبيد بالخارج الذين رضوا أن يطأطئوا رؤوسهم للظلم أو للطغيان، أنت الحر لا هم، أنت الأعز ولو كانوا في سياراتٍ فارهةٍ وقصورٍ متسعةٍ، وللحساب يوم يعرف كل شخص فيه قدره الحقيقي، إياك إياك أن تأخذك حسرةٌ على نفسك في ذلك، فالحسرة والله على العبيد الذين رضخوا لهم وهم طلقاء لا عليك، أنت لم تدخل إلى هذا المكان بقدر الله إلا لأنك عزيزٌ حرُ، وهم لا يريدون بالخارج إلا العبيد لكي يسبحوا بحمدهم ليل نهار، والله لوجودك خلف القضبان دليلُ على قوتك وضعفهم، إنهم يخافون من أثرك فحاصروك، بالأسوار كما تُحاصر الأسود، وقد ورد في الحديث أن نبي الله إبراهيم أول من سيُكسى يوم القيامة، قيل: لأنه عري على الملأ حين ألقوه في النار، فهل نقص قدر إبراهيم بما فعلوه فيه؟ كلا والله بل زاد فهو الكريم خليل الرحمن، كما لا يخفى عليك ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء هو وأصحابه حتى وضعوا أحشاء وأمعاء الذبيحة على ظهره وهو ساجد وصاروا يتبادلون الضحكات عليه، وغير ذلك الكثير مما تعرض له الصحابة، قد يراها قاصر النظر إهاناتٍ تقلل من قدرهم، إلا أنها كانت المواقف التي صنعتهم وأعلت قدرهم عند الله وجعلتهم أهلاً للعزة والنصر بعد ذلك، ومن أجمل الكلمات قرأتها في هذا الشأن كانت كلمات ابن القيم حين قال: “يا مخنَّثَ العزم أين أنت والطريقُ؟ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم تزها أنت باللهو واللعب.
قاوم…من أخطر ما يورثه السجن في النفوس هو الانهزام والقابلية للترويض، احذر من ذلك، إن ذهاب بعض حريتك لا يعني أن تفرط فيما بقى منها، نعم أنت في وضع إكراه ومعذور، والقدرات تختلف، لكن حاول ما استطعت ألا تترك منفذاً تستطيع أن تظهر فيه صلابتك وقوتك وتكسر فيها كبرياء ساجنيك إلا وفعلت، فإنك كلما انحنيت زادوا من ضغطهم عليك لتزداد انحناءاً، قاوم بحسب ما تعلمه من نفسك من قوة، ولا أقول لك عرّض نفسك لما لا تطيق من البلاء، ولكن إعلم أن ثباتك مقاومة، صمودك مقاومة، امتناعك عن بعض راحتك حفظاً لبعض كرامتك مقاومة، كلما وجدت إلى المقاومة سبيلاً ووجدت من نفسك قدرة على مواجهة نتائجها فانطلق، ولا تعوّد نفسك على الاستكانة للطغاة والاستهانة بالكرامة وهنا أيضا أنبهك على ألا تجعل من ساجنيك على اختلاف درجاتهم صحابا لك، لا تصالحهم، لا تهادنهم، ليسوا منك ولست منهم، من أعلى رتبة لأدناها، فأعلاهم طاغٍ جبار، وأدناهم عبدٌ لهم، وأنت نفسك نفس حر، وشتان بين نفوس الأحرار ونفوس العبيد إلى هذه الكلمات أنهيت ما كنت أود أن أرسله إليك وأنصحك به، فإذا وصلتك كلماتي فلا تنسني ووالديّ من دعوة خالصة..ثبتك الله يا حر وفرج عنك.