صورة للجالية اليهودية في فاس
الأخبار المغربية
بدأت الفكرة في مبنى صغير قريبا من مقبرة يهودية، بالقرب من القصر الملكي في فاس. في الماضي، استُخدِم هذا المبنى كبناية لمدرسة “أم البنين” التي كانت جزءا من مؤسسات التربية اليهودية التي أقيمت عام 1912. بما أنه لم يبقَ شبان في الجالية اليهودية، ولم تعد هناك حاجة إلى المدارس، أقام ادموند غباي، أحد أواخر اليهود في المدينة، متحفا بدلا من المدرسة. تُعرض في المتحف أدوات تُستخدم في الطقوس الدينية، كتب، شهادات، وأغراض وصور عائلية وتاريخية. جُمعت هذه الأغراض في المتحف في كل مرة غادر فيها أحد أبناء الجالية المدينة أو توفي.
هناك في المتحف قاعة مركزية، كانت تُستخدم سابقا كنيس، ولكن أصبحت اليوم قاعة عرض. يمكن الخروج من القاعة إلى غرفة الصور، التي تنتصب فيها طاولة خشبية صغيرة، وعليها ألبومات عائلية، تدعو الزوار إلى الغوص في أعماق ذكريات الماضي. يمكن الانتقال من هذه الغرفة إلى غرفة أخرى فيها كتب تعليمية وشهادات مدرسية، ثم إلى غرفة أخرى فيها معدّات طبية لمستشفى يهودي يُدعى “بيكور حوليم”، وغيرها.
يعرض المتحف الصغير الذي أقامه غباي القليل عن ماضي الجالية اليهودية العريقة في المغرب. كانت تُعتبر هذا الجالية في فاس أحد مراكز اليهودية الأكثر ازدهارا في العالم. لقد عاش اليهود في فاس بدءا من القرن التاسع، ونجحت المدينة على مر التاريخ بالازدهار وجذب كبار الحاخامات مثل الرمبام (موسى بن ميمون)، الذي عاش في المدينة القديمة، ودرس في جامعة القرويين، التي تعتبر الجامعة الأولى في العالم. لقد طرأت تغييرات على تعامل نظام الحكم مع اليهود على مر العصور، وشهدت الجالية اليهودية تعاملا مختلفا، ولكنها صمدت طوال سنوات. لقد بدأت هذه الجالية تتلاشى في نهاية الأربعينات، بسبب احتدام النضال من أجل استقلال المغرب والنشاطات الصهيونية في المملكة. هاجر يهود كثيرون إلى إسرائيل، فرنسا، وكندا، فتقلص عددهم في فاس. تشهد الأرقام على ذلك، ففي عام 1947 عاش في فاس 22,500 يهودي، في عام 1951 انخفض تعدادهم إلى 12,650، ووصل في السبعينات إلى 70 حتى 1,000، أما اليوم فيعيش في فاس 50 يهوديا فقط.
رافق الهجرة من فاس إلى إسرائيل ودول أخرى الشعور بالهجرة واللجوء، سواء كان قرار الهجرة بمحض الإرادة أم قهرا، وسواء كان مصدرا للفرح أو الحزن. لم يؤثر هذا الشعور في الجيل الأول الذي قدم إلى إسرائيل فحسب، بل في كل الأجيال التي قدمت إلى إسرائيل لاحقا وواجهت الفارق بين الحياة في إسرائيل والحياة في فاس. يمكن أن نفهم هذا الفارق بشكل أفضل عبر التمييز الذي عرضه المؤرخ دومينيك لاه كبريه في كتابه “كتابة التاريخ، هي كتابة صدمة”. ميز لا كبريه بين نوعين من الصدمة: الأولى هي صدمة الخسارة – الخسارة هي فقدان شيء لم يعد في الحاضر، ومنها فقدان الجالية، المنزل، الشوارع والمناظر المعروفة، الأصدقاء وذكريات الطفولة، وخسارة أبناء العائلة أحيانا الذين انتشروا في العالم؛ الثانية – هي صدمة من نوع النقص – الشعور بأن هناك ضياعا، شعورا غير مفسّر، يتجسد أحيانا في الصعوبة في وصف هذا النقص.
جولة افتراضية في متحف فاس:
يمكن تطبيق التمييز الذي عرضه لا كبريه على انقراض الجالية اليهودية في فاس. يشعر بالضياع بشكل أساسي أبناء الجيل الأول، الذين وُلِدوا في فاس وهاجروا إلى إسرائيل أو إلى دول أخرى. فقد تركوا في فاس كل ممتلكاتهم مثل المنزل، الأصدقاء، أبناء الجالية، وما شابه. بالمقابل، يشعر أبناء الجيل الثاني والثالث ونسلهم الذين ولدوا في إسرائيل بشعور من النقص. فقد سمع جزء منهم فقط عن مدينة فاس، ولكنهم لا يعرفون الكثير عنها. تعزز الشعور بالخسارة على مر السنوات، بسبب الأهمية القليلة التي حظي بها تراث الجالية اليهودية التي أصلها من الدول العربية والإسلامية في المواد التعليمية في المدارس الإسرائيلية وفي السيناريو الإسرائيلي.
أدموند غباي مؤسس المحتف في فاس
في عام 2003، زرت متحف ادموند غباي للمرة الأولى. تخالف الثروة التراثية المعروضة في غرف المتحف تماما الشعور بالنقص الذي شعرت به سابقا فيما يتعلق بهويتي المغربية. فهمت خلال القليل من الوقت الذي زرت فيه المتحف أن أفضل شيء للتعافي من الشعور بـ “النقص” هو الشعور بـ “الوفرة”، وأن هذه الوفرة قائمة في المغرب وفي ذكريات مواطنيها. استوعبت هذه الحقيقية تدريجيا، حتى زرت المتحف ثانية بعد مرور ثلاث سنوات، أي في عام 2016. في هذه المرة، كانت أمامي أربعة أيام لتوثيق المتحف بمساعدة طاقم من المتطوعين.
في اليوم الأول من توثيق المتحف تساءلنا، من أين نبدأ؟ فقد بدا كل شيء هاما ومثيرا للفضول. هل علينا البدء بتوثيق الصور القديمة، أم بالصور التي على الطاولة؟ توثيق الصور التي على الحائط، أم المستندات المنتشرة في الغرف؟ لقد قررنا تقسيم المهام، فالتقطت ابتسام صورا للأغراض، أما أنا التقطت صورا للألبومات. شعرنا بشعور مميز عندما شاهدنا الصور في الألبومات. تضمن جزء من الصور صورا لعائلات كانت ترتدي ملابس احتفالية بمناسبة التقاط الصور. والتُقطت صور أخرى في احتفالات جماهيرية، وبدا الفرح على وجوه الأطفال.
في اليوم الثاني من توثيق الصور كنا قد نجحنا في توثيق المئات منها، ولكننا لم نعرف ما هي القصص التي تخفيها. تساءلنا ما الذي يمكن القيام به لمعرفة هذه القصص، فخطر في بالي العثور على الأشخاص الذين يظهرون في الصور، وتذكيرهم بماضيهم. لهذا بحثت عن طريق للعثور على القادمين من فاس، وجمعهم والاستعانه بهم من أجل “التعرف الجماعي” على الصور التي في المتحف. وهكذا في اليوم الثاني من التوثيق افتتحت مجموعة فيس بوك تحت اسم The Jewish Fes-book Project – يهدف المشروع إلى “توثيق الجالية اليهودية في فاس”.
في غضون أيام، انضم إلى المجموعة 600 عضو، وأصبح تعدادها لاحقا نحو 2.200 عضو. شكلت زيادة عدد المشاركين في المجموعة دليلا عكسيا على نقص عدد أبناء الجالية اليهودية في فاس. تم توزيع الصور التي تم توثيقها في المتحف ضمن أربع مجموعات: اهتمت المجموعة الأولى بصور الأطفال، والثانية بالنساء، والثالثة بالرجال، والرابعة بالصور الجماعية. طُلِب من أعضاء المجموعة أن يذكروا السنة والموقع اللذان التُقِطت فيهما كل صورة ووضع “تاج” على الأشخاص الذين يظهرون في الصورة. وهكذا في كل مرة تم وضع تاج لشخص معين في الفيس بوك، ظهرت الصورة في صفحته على الفيس بوك، وهكذا انشترت المجموعة سريعا. في وقت لاحق، أصبح أعضاء المجموعة نشطاء يوثقون الصور، وقد نشروا صورا عائلية وساعدوا على التعرف إلى الصور التي رفعها أصدقاء آخرون، وشاركوا الآخرين بذكريات الماضي.
لم تركّز المجموعة على “الصور” ولم تثر جدالات حول أحداث الماضي، بل ركزت على استعادة الذاكرة، على ذكريات الماضي التي نُسيت أو ربما تم نسيانها عمدا. بهدف تذكّر الماضي، استُخدِمت وسائل تساعد على التذكر مثل طرح أسئلة: “في أي شارع سكنت عائلتك في فاس؟”، يتطلب هذا السؤال تذكّر أسماء الشوارع في مراحل مختلفة. في حال شاهد أحد أعضاء المجموعة اسم شارع يذكره بماضيه، كان يشارك أعضاء المجموعة الأخرى فورا، وهكذا فعل سائر الأعضاء أيضا. أتاح الكشف عن أسماء الشوارع أن يتعرف سائر أعضاء المجموعة الآخرين على الجيران، الأصدقاء، والعائلة.
جولة افتراضية في كنيس ابن دنان:
هناك طريقة أخرى لاستعادة الذكريات وهي إجراء جولات افتراضية في مواقع التراث اليهودي في فاس من خلال عرضها بزاوية 360 درجة (بشكل يحاكي الواقع). هكذا رُفعت أمام المجموعة جولة افتراضية في كنيس “ابن دنان” الذي أقيم في القرن السابع عشر في الحي اليهودي في الملاح، في فاس. منذ عام 1999 أصبح الكنيس موقعا عالميا للحفاظ على التراث من قبل اليونسكو. كما سمحت جولة افتراضية أخرى لأعضاء المجموعة بإجراء زيارة افتراضية في الكنيس على اسم رؤوفين بن سعدون، الواقع في الطابق العلوي في أحد المباني في الشارع. أقيم المبنى في عام 1920، وكان يعتبر أحد أجمل المباني المميزة في المدينة. سمحت الجولات الافتراضية لأعضاء المجموعة أن يتذكروا طفولتهم المتعلقة بالكنيس، مثل قراءة التوراة، احتفالات البار متسفاه، حفلات الزواج، الآباء والأجداد، حاخامات الجالية، واحتفالات جماهيرية أخرى جرت في الموقع. لم تكن الكنس في المغرب مراكز دينية فحسب، بل كانت مراكز لقاء لأبناء الجالية اليهودية.
نجح يهود مدينة فاس في المغرب، في أن يتحولوا من جالية محلية شهدت تراجعا في عدد أفرادها إلى جالية افتراضية جديدة في الفيس بوك، يلتقي أفرادها معا عبر هذه المنصة. فقد التقى عبر الصفحة أصدقاء وأبناء عائلة بعد أن انقطعت العلاقات بينهم منذ سنوات. ساعدت إمكانية ترجمة “المنشورات” على التواصل بين أعضاء المجموعة وتذكّر الماضي. وأتاحت المواد المعروضة في صفحة الفيس بوك والنقاش الذي دار حول كل صورة، استعادة الذاكرة والتعاون المثمر. كانت المواد الوثائقية التي عُرِضت متوفرة كل الوقت وفي كل مكان، وكان الوصول إليها متاحا ما ساعد على نشرها والتعرف إليها.
صورة لغرفة داخل المتحف اليهودي في فاس
كما أثارت المجموعة اهتماما لدى المسلمين المغاربة من مدينة فاس الذي أعربوا عن اهتمامهم بيهود مدينتهم. فقد أعدت طالبات أحيانا واجبات مدرسية تناولت شؤون اليهود المغاربة ووجدن في المجموعة مصدر معلومات، وأحيانا اهتم الممثلون بإنتاج فيلم حول الموضوع، أو اهتم باحثون أكاديميون يهتمون بيهود المغرب بالمجموعة أيضا. ولكن أكثر من كل شيء، شارك مسلمون من المغرب في المجموعة من خلال عرض القصص التي سمعوها من أجدادهم عن جيرانهم اليهود الذي عاشوا قريبا منهم في الماضي.
لقد ساهمت معلومات المسلمين كثيرا من أجل المجموعة، سواء كان ذلك في إكمال الذاكرة من الناحية الإسلامية، أو بتوثيق أحداث الماضي، مثل التعرّف إلى القبور، صور اللافتات، الشوارع، وغيرها. يذكّر الحيز الافتراضي المشترك بين اليهود والمسلمين الذي نشأ في المجموعة حول يهود المغرب بأن الحديث يجري عن تراث مشترك لكل مواطني المغرب يهودا ومسلمين على السواء.
عينات ليفي