بقلم: محمد قاسيمي
رفقة زميلي الصحافي
بعد الحكم الأول بلحظات قليلة، وأنا شارذ الذهن شديد الاضطراب ، لا رغبة لي في شيء ، ممسك عن الكلام، جلست في حافة الزنزانة وقد توسّدت يداي ووضعت عليهما رأسي المثقل بالهموم والأحزان، جاءني شاب لطيف، وناداني لكي أتوجه إلى شرفة الزنزانة.
وبجفاء كلمتين خاليتين من أية مقدمات، خاطبته : ماذا تريد؟! ، أخبرني بصوت لا أكاد أسمعه ، أنه يحمل إليّ رسالة، ويجب أن أتسلمها خفية وعلى وجه السرعة، تسلمتها والفضول يراودني لأعرف فحواها ومن أرسلها، فلم يكن الشخصُ المُرسِل إلا “الموتشو” بوصف الروائي حسن أريد ، إنه الصحافي “س.ر” يُحاول أن يواسيني بعد الحكم الصادر في حقّي ويعبّر عن تعاطفه معي ومن ثم تقديره واحترامه .. وأشياء أخرى سأنقلها لكم : “أخي القاسمي أحزنني كثيرا الحكم الظالم الجائر الصادر في حقكم اليوم ، كنت أُمنّي النفس بظهور براءتكم، لكن هناك فرصة ، والأمل معلقٌ بالاستئناف إن شاء الله ، وأغتنم الفرصة لأعبّر عن إعجابي الكبير بملئ وقتكم بالقراءة والكتابة وطبيعة ما تقرؤون ، تصلني الأخبار ، ولذلك تقبّل مني هديتي المتواضعة، وهي تفسير لنهج البردة، لسيّدي ابن عجيبة الصوفي لعلك تسلو بها قراءة ماتعة زميلي المحترم وما عليك إلا الصبر لقضاء الله وقدره المحتومين…”
كانت رسالة تعبّر عن معدن الرجل ، كيف لا وهو سليل عائلة عالمة وعربية و منبع من منابع الشريعة والحقيقة بشمال المغرب على مر العصور والأزمان، وباع عظيم في علوم الفكر والتصوف، قد نختلف ولكن هذا لا يمنعنا من ذكر مناقب شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وشخصيا أعرف الزاوية إياها في شمال المغرب ، أكثر مما أعرف (س)، وربّما (س) لا علاقة له بذاك النبع ولم يرتوي منه أصلا، الرجل حسب ما اعرفه اختار حياة اخرى نظرا لطبيعة حياته المهنية ، لكن الأكيد عندي أن دماء الـأجداد تحركت فيه وهو يعيش محنته محبوساً بين أربعة جدران ، وحيدا في زنزانة انفرادية وبتهمة أخلاقية يكون وقعها على النفس أعمق مما قد يتخيله مظلوم ..
ما لا تعرفوه أن (س.ر) الآن ارتفع لديه منسوب الإحساس الديني إلى أعلى مراتبه ومدارجه ومقاماته.. يصلي الصلوات في أوقاتها، محافظ على الصيام والقيام، لا يفوت فجرا، لا يفترُ من قراءة القرآن صباحا وعشياً، وخلال ساعة الفُسحة اليومية يركدُ بدون توقّف، لقد تغيّرت أحواله وتصالح مع الدّين وورث أجداده الأوائل، صار إنسان لا يتكلم إلا بالدين، هو عكسي تماما، نعم أنا طلّقتهم طلاقا ثلاثا ، وما زادني السّجن إلا كفرا واجحاداً، سبحان مقلّب القلوب ، يقرّب هذا ويبعد ذاك، نعم أشعر بالرغبة في قراءة كل ما هو صوفي، لكني أرفض حمل السبحة أو التوجه إلى القِبلة..
وعندما أجبته بعد أيام على ظهر كتاب ، كان الكتاب لأحد العدميّين الكبار ، وقلت له “صديقي (س) لا قضاء إلا ماقضى به القاضي ولا قدر إلا ما قدّرته علينا هيئة الحكم وما سوى ذلك سراب في سراب في سراب ..” وللأسف وقعت الرسالة في يد مسؤول بألمؤسسة السّجنية عين السبع فتعامل مع الموقف بشكل مرعب ، حيث أشعرت الإدارة العامة بخبر تواصلنا وتبادل الكتب والرسائل، وحرّر محضر في الموضوع ، فكانت الواقعة سببا معجّلا لترحلي إلى مدينة مكناس ومن ثم تفريق كل الصحفيّين المتواجدين في الجناح الانفرادي بالدار البيضاء ..
عموما أتمنى ل(س) الإنسان الفرج ، كان السجن فرصة للتعرف عليه عن قرب وتبادل أطراف الحديث في مواضيع مختلفة ، رجل محترم وما رأيت بعيني يختلف تماما عما أسمعه بأذني أو من مقالات لا يكتبها الصحفيين وتنشرها جرائدهم كوحي ينزل من السماء …، رحمةً بالناس وبعائلاتهم …